ashraf Admin
المساهمات : 3848 تاريخ التسجيل : 03/10/2017
| موضوع: 28 / 4 / 1435 - داء الأمة وعلاجها - آل طالب السبت ديسمبر 23, 2017 7:54 pm | |
| داء الأمة وعلاجها ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "داء الأمة وعلاجها"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب الضعف والبلايا التي حلَّت بأمة الإسلام في العقود الأخيرة، مُبيِّنًا أنها راجعةٌ إلى أمرٍ أساسٍ، ألا وهو: تركُ التمسُّك بالكتاب والسنَّة، مع التفرُّق الواضِح بين المسلمين، ثم حثَّ على ضرورة علاجِ ذلك على أيدي العُلماء ووُلاة الأمور على وجهِ الخصوص.
الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي بعثَ نبيَّه بالهُدى وخاتمة الرسالات، وأرسلَه بالوحي وأيَّده بالمُعجِزات، وجمع به العُربَ من الشَّتات، وأخرجَهم به إلى النور من الظُّلُمات، أشهد أن لا إله إلا الله وحده ربُّ الأرض وربُّ السماوات، كم توالَت علينا نِعَمُه وفاضَ علينا جُودُه وكرمُه ولم تزَل تتوالَى منَّا الخطيئَات، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أحسنَ ربُّه خلقَه وأكرمَ جوهرَه، وجعلَ هديَه زكاءً للنفوس ومَطهره، وأضاءَ الله بشرعِه الكونَ ونوَّرَه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فإن خيرَ الوصايا بعد المحامِد والتحايا: الوصيةُ بتقوى الله العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]. كلُّكم راحِلٌ إلى الله عابِرٌ إلى الآخرة، والأيام تمضِي بالأعمار عجلَى مُسرِعة، والنفوسُ في هذه الدُّنيا عرايا مُسترجَعة، والأبوابُ إلى الله لم تزَل مُشرَعة، وعند الله الوعدُ والإيعاد، وهو للطاغِين بالمِرصاد، وللطائِعين رزقٌ ما له من نفاد. أيها المسلمون: يصطرِعُ العالمُ اليوم على رغَباتٍ سياسيَّة وقوميَّة، ودينيَّة واقتصاديَّة، ويعيشُ أزمَاتٍ حادَّةً نتيجة الأهواء الفردية، والمطامِع الإقليمية، واستِبدادًا يستمِدُّ بقاءَه بالبطش والاعتِداء. أنتجَ ذلك البغيَ والظلمَ، واشتِعالَ الحُروب، وسقوطَ الضحايا وخرابَ الديار، مما يُهدِّدُ العالمَ كلَّه بالاضطرابِ وسُوء الحال. وقد نالَ المُسلمين قِسطٌ وافِرٌ من هذا البلاء، وأصابَهم ضِعفُ ما أصابَ غيرَهم، وتكالَبَت عليهم الأُمم، فاحتُلَّت بعضُ أوطانِهم، واستُنزِفَت خيراتُهم، وسُرِقَت أقواتُهم، وضاعَ صوتُهم. فُرقةٌ وشتاتٌ، وتنازُعٌ واختلافٌ، وفي الوقت نفسِه تنتظِمُ كثيرٌ من الدُّول في تكتُّلاتٍ عالميَّة ضيَّقَت هُوَّة الخلافات بينها، وتقارَبَ بعضُها مع بعضٍ من أجل مصالِحِها، مع أن ما بيننا من عُرَى الوحدة وأسباب التضامُن والتكافُل، والتعاوُن والترابُط أكثر مما بين أُمم الأرض جميعًا. إن واقعَ المُسلمين اليوم لَيُشبِهُ واقِعَهم يوم الأحزاب، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10]. المسجد الأقصَى .. الأرضُ المُبارَكة وما حولَها .. شامُ العِزِّ وأهلُها .. بُورما وأفريقيا الوُسطَى .. فضلاً عن اضطِرابِ كثيرٍ من بلاد المُسلمين واحتِرابِ بعضِهم مع بعضٍ، وتمالُئِ الأعداء عليهم من الشرق والغربِ. ولم يزَل جُرحُ فلسطين كُلَّما شُغِل المُسلِمون عنه بقضايا حادِثة كلَّما حرَّك المُحتلُّ ما يُهيِّجُه ويُدمِيه، مُستفِزِّين بذلك شُعورَ مئاتِ الملايين من المُسلمين، مُستعجِلين به ثوراتٍ وصِداماتٍ سُرعان ما تشتعِل، وما أبطأَ ما تنطَفِئُ. والشعوبُ المُسلمة اليوم تغلِي غلَيَان المِرجَل، وقد أدركَ الأعداءُ ذلك فانطلَقُوا جميعًا للوقوف أمام أمانِيها، وأجهَضُوا أحلامَها، مُستعِينين بالنفوس المريضة، والذين يُريدون جرَّ شُعوبِهم إلى هاوِيةِ التردِّي والذُّلِّ والشَّتَات. إن المِليارَ مُسلم يتعرَّضون اليوم لامتِحاناتٍ عالميَّةٍ قاسِيةٍ تقتَضِيها سُنَّةُ الابتلاء؛ ليقضِيَ الله أمرًا كان مفعولاً. أيها المسلمون: أمَّتُنا المسلمة العظيمة المُمتدَّةُ في التاريخ عُمقًا، وفي الرِّيادة عُلُوًّا، المُتسيِّدة على الدُّنيا حِينًا من الدَّهر، قدْرُها وقدَرُها أن تبقَى في الصَّدارة دومًا؛ إذ هي خاتمةُ الأُمم، وتمام الشرائع، والشاهِدةُ على الناس كافَّة، ووارِثةُ الشرائع السماوية والدين الحقِّ. استقرَّت الدنيا حين سادَت، ونعِمَ الناس بالعدل حين حكَمَت، وهُدِيَ الناس لخالِقِهم حين دَعَت وأرشَدَت، واتَّصَلَت الأرضُ بأسباب السعادةِ إلى السماء، وكان المُسلِمون حينَها برِيَادة أُمرائِهم وعُلمائِهم وذوِي الرأيِ فيهم على وعيٍ بحقيقةِ أمَّتِهم وقدرِها، ضحَّوا وصبَروا وصابَروا، فنَعِموا ونعِمَت أمَّتُهم والناسُ كافَّةً بثمرة هيمَنَة الدين الخاتم حتى وصلَ الأثرُ للبهائِم والطير والنباتِ. واليوم وقد اختلَفَت الموازِينُ، وطغَت حضارةُ الآلةُ على حضارة الإنسان، وتسيَّدَت المصالِحُ وتَوارَت الأخلاق، ووهَنَ كثيرٌ من حمَلَة هذا الدين، وأدرَكهم داءُ الأُمم قبلَهم، وقصَّر كثيرٌ من حُكَّام المُسلمين؛ أصبَحَت هذه الأمةُ مِزَعًا، وأمرُهم فُرُطًا، ذهبَت رِيحُهم، وخبَت نارُهم، وتضعضَعَت بين الأُمم كلمتُهم. فأصبحَ الناسُ ينشُدون الهُدى عند غيرِهم، ويبتَغون الرَّشاد عند سِواهم، وعوَّلُوا كثيرًا على ما أنتَجَته حضارةُ المادَّة، وعُصارة الفِكر الحديث، فما زادَهم ذلك إلا تِيهًا فوق تِيه. والعزاءُ في ذلك العَثار هو أن الداء ليس في الدين نفسِه، وإنما في كثيرٍ من حمَلَته. فلم تنطَفِئ الشُّعلةُ وإنما كلَّ حامِلُها، ولم تغِب الشمسُ وإنما عمِيَ البصير؛ فهذا الدينُ عصِيٌّ على الفناء، لا يقبلُ الذَّوَبان وإن ذابَ بعضُ أتباعه. وإذا قصَّر في حقِّه جيلٌ أتى الله من بعدِهم بأجيال. كلُّ هذا وغيرُه يقتَضِي منا وقفةَ تأمُّلٍ نتدبَّرُ فيها طريقَ الخلاص، وخُطَّةً مُثلَى للنهضَة بأمَّتنا، وتجنِيبِها الفتن والحروب، والفقر والحاجَة، والمرض والجهل. إن الصراعَ بين الأُمم اليوم ليس صِراع مُغالبَةٍ فحسب؛ بل هو صراعُ بقاءٍ أو فناءٍ، أن تكون أو لا تكون! في زمن عولَمة الفِكر والثقافة قبل عولَمة الاقتصاد والسياسة، في زمن هيمَنة القُوى وفرض الرأي بالقوة. فالتضامُن بين المُسلمين في هذا العصر ضرورةٌ للبقاء، والعالَمُ حولنا يتكتَّلُ، ولا يحترِمُ إلا الأقوياءَ المُتَّحِدين. إن الشعوبَ الإسلامية لا تُريد غيرَ الإسلام عقيدةً تُؤمنُ بها، ونظامًا يحكمُها، ودينًا يجمع شتاتَها، وأُخُوَّةً تُوحِّدُ صفوفَها، وعملاً صادِقًا يُحقِّقُ أهدافَها، وعدالةً تسودُ مُجتمعاتها، ومُساواةً تنتظِمُ طبقاتها؛ لتعيشَ في سلام، وتعبُد الله في أمان. أيها المسلمون: التكاتُف والتعاوُن فِطرةٌ في الخلق، ومبدأٌ إسلاميٌّ أصيل، وأمرٌ إلهيٌّ جليل، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفِهم مثَلُ الجسَد الواحِد إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهَر والحُمَّى»؛ أخرجه الشيخان. وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا»؛ متفق عليه. وفي "مسند الإمام أحمد" بإسنادٍ حسنٍ: قال - صلى الله عليه وسلم -: «الجماعةُ رحمةٌ، والفُرقةُ عذابٌ». وأولُ شيءٍ فعلَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مُهاجَره إلى المدينة: أن آخَى بين المُهاجِرين والأنصار، وتكرَّرَت الآيات والأحاديث في الحثِّ على الاجتماع ونبذ التفرُّق، ومع أنه مأمورٌ شرعًا إلا أنه مُتحتِّمٌ عقلاً. فالاختلافُ من عدم العقل، قال الله - عز وجل -: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]. وقد عذَّب الله قومًا بالتِّيه والشَّتَات أربعين سنةً يَتيهُون في الأرضِ. عباد الله: إن هذه الأمة المسلمة تملِك إرثًا تاريخيًّا وحضاريًّا في الاتِّحاد والاجتِماع، وتملِك من مُقوِّمات الوحدة أكثر من غيرِها، ولقد جرَّبَت طُرقًا تائِهة، وأنفاقًا مسدودة، وسُبُلاً مُظلِمة، فلم تنجَح في ذهابِها، ولم ترشُد في إيابِها. إن على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ أن تسعَى بكل صِدقٍ وإخلاصٍ إلى التمسُّكِ بأسبابِ بقائِها كأمَّةٍ، وأن تعود إلى سبب رِيادَتها وإلى ذاتِ رِسالتِها. إننا نطمَحُ أن يُبادِرَ المعنِيُّون من رجالِ الحُكم والدعوة والسياسَة والاقتِصاد، والتربية والاجتماع في عالمنا الإسلاميِّ إلى تبنِّي ذلك، والدعوة إليه بصِدقٍ وإخلاصٍ، وعزيمةٍ وإرادةٍ، حتى تقتَعِدَ أمَّتُنا مكانَها اللائِقَ بين الأُمم، وتُحقِّق إخبارَ الله - عز وجل - في كتابه الكريم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]. والعالَمُ يشهَدُ إفلاسَ القِيَم الغربية، وتهاوِي الأنظِمة الوضعيَّة، وكثرة المآسِي الإنسانيَّة، وإهدار الكرامَة الآدميَّة، إضافةً إلى دعمٍ لدعواتٍ عُنصريَّة، ومواقِف طائفيَّة، تسفِكُ دماءَ المُسلمين، وتشُقُّ صفوفَهم، وتُبدِّلُ دينَهم، وتجتَرُّ عداواتِ الماضِي وأحزان السالِفِين، وتُجذِّرُ للعداوات والانتِقام. ويزيدُ شَتاتَ المُسلمين ثوَرَان حُمَّى التصنيف، وكثرة الانتِسابات، حتى كادَ الاسمُ الشريفُ لأفراد الأمة - والذي هو "المسلمون" - يذوبُ في بحر الانتِسابِ للطوائِف والأحزاب والجماعات، ما بين مُنسِبٍ بإرادتِه، أو منسوبٍ رغمًا عنه، في تفتيتٍ للمُفتَّت، وتفريقٍ للمُفرَّق، حتى صارَ المُنشغِلون بتصنيف المُسلمين يُصنِّفُونَهم على كلمةٍ مُحتملَة، أو خطأٍ في فهم المُصنِّف نفسِه، مُضيفين طعَنَاتٍ للجسَد الجريح. إن هذا يتطلَّبُ من المُسلمين جميعًا أن يُدرِكًُوا عِظَم المسؤوليَّة، وأن يُحافِظُوا على ما بقِيَ لهم من أوطانِهم واجتماعِهم، وأن يشرَعوا في التضامُن فيما بينهم، وتقريب شُقَّة الخلاف، والعمل الجادِّ الدَّؤُوب للسَّير في طريق الوحدة على هديٍ من الكتابِ والسنَّة، مع فهمٍ لمُجرَيَات العصر، وتقدير ظُروفِه، والتحرُّك بخُطًى ثابتةٍ بعيدةٍ عن الارتِجال ورُدودِ الأفعال، والتعامُل مع الأحداث والوقائِع بأسلوبِ العصر ومنهَج الشرعِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1]. ولقد قامَت مُحاولاتٌ للوحدة على غير أساس الإسلام؛ بل على أُسسٍ قوميَّة وعُنصريَّة، تُبعِدُ الإسلام وتُهمِلُ شرائِعَه، فما جنَت إلا الخسارَ والشَّتَات، ولم تترُك إلا الجروح الدامِيَة، والآثار المُدمِّرة التي لا زالَت الأمةُ تُعانِي من وَيْلاتها. أيها المسلمون: إن تباشِير الخير تلُوحُ بوادِرُها، رغم الخُطوب المُدلهِمَّة والأخطار الجَسِيمة التي تُحيطُ بالمُسلمين، ورغم ضَراوة الهَجمَة عليهم، وفي الأمة خيرٌ كثيرٌ، وهي الشهيدةُ على الناس، القائمةُ بالحقِّ والعدلِ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]. ولو صدقَت النيَّات لاستطاعَ المُسلِمون بوحدتهم أن يُقدِّمُوا النموذجَ الصادِقَ، والمثلَ الحيَّ للإسلام الحقِّ الذي تتطلَّع الإنسانيَّةُ كلُّها إليه، لانتِشالِها من عثَارِها، وإنقاذِها من تخبُّطها وإفلاسِها في عالَم القِيَم والأخلاق، وسيطَرة الأنانيَّة والماديَّة، والشهوات بأنواعها على الأهواء، وغلبَتها على أخلاقِ الشُّعوب وقرارات السَّاسَة، وعجز حضارة المادَّة عن إسعاد البشر ووقف الحروب والصِّراعات. إن التمزُّق الحالِيَّ للمسلمين هو محنةٌ عارِضةٌ، سبقَ أن تعرَّض الكِيانُ الإسلاميُّ لها، ثم تغلَّبَ عليها ونجا منها، وإن الاستِسلام للهَزيمة خطأٌ، وفُقدانَ الثقة في المُستقبل إثمٌ. وإن الهزيمةَ تجِيءُ من داخلِ النفس قبل أن تجِيءَ من ضغوط الأعداء، ولسنا أولَ أمَّةٍ ابتُلِيَت وفُرِضَ عليها أن تحيا كما تُريد. إن حَتميَّة التضامُن أمرٌ يفرِضُه الواقِع، وتنصَحُ به التجربة، وتدعُو إليه المرحلةُ الحرِجةُ التي تمرُّ بها الأمةُ، في عالَمٍ يتضامنُ المُتفرِّقون فيه والمُتبايِنون ثقافةً ودِينًا وعِرقًا من أجل المصالِح المُشترَكة، ونحن أولَى بذلك التضامُن، كما قال ربُّنا - عز وجل -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، وقال - سبحانه -: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52]. اللهم بارِك لنا في القرآن والسُّنَّة، وانفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله الطيِّبين الطاهِرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فمن بوادِر الفألِ: أن تحتضِنَ عاصِمةُ الإسلام، ومهبَط الوحيِ، وقبلةُ المسلمين: مكةُ المُكرَّمة جمعًا من كبارِ عُلماء المسلمين في العالَم برعايةٍ كريمةٍ من خادم الحرمين الشريفين - وفَّقه الله -، يتدارَسُون واقعَ العالَم الإسلاميِّ بمُشكلاتِه وحلُولِه، ويسعَون لتحقيق ما تتطلَّعُ إليه الأمةُ المُسلِمةُ. ولا زالَ العُلماءُ هم الأملُ في زمن اضطِرابِ السياساتِ، وكثرة الألوِيَة والتحزُّبات. يجمَعون الأمةَ على كلمة التوحيد، ويُبصِّرون الناسَ بالحقِّ ويهدُونَهم إليه، ويكشِفون زيفَ الباطل ويمنَعونهم منه، ويتبنَّون مشروعاتٍ تجعلُ من التضامُن الإسلاميِّ واقِعًا لا حُلمًا، وحقيقةً ملموسةً لا مُجرَّد أثمنيَّةٍ مرجُوَّة. فقد آنَ الأوانُ لتُترجِمَ القيادةُ في كل دُول المُسلمين أُمنِيَةَ الشُّعوبِ باللُّحمة والاجتِماع إلى واقعٍ يُرضِي ربَّها، ويُسعِدُ شعوبَها. إن الخروجَ من حالة شَتات المُسلمين أمرٌ يقعُ على كاهِل قادة الأمة ومُفكِّريها، فكلُّ الأُمم صنعَت وحدتها. فما بالُنا مُشتَّتون؟! مع توفُّر الأسباب وإلحاح الحاجة، وضمانات النجاح، وتوافُر الموارِد. إننا نتطلَّعُ إلى تضامُنٍ واتِّحادٍ يُثمِرُ خيرًا وبركةً في كل المجالات، وينهَضُ بالأُمَّةِ لتَقُودَ الأُمم، وتدفعَ عن نفسِها وقِيَمها ووجودِها. ولن يصلُح هذا التضامُن إلا بمرجعيَّةٍ ثابتةٍ تتَّحِدُ بها الأمة، وتنطلِقُ بها نحو نهضَتَها. وهذا المرجِعُ هو الوحيُ المُتمثِّل في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى نَهج أصحابِ النبي الكِرام، قال الله - عز وجل -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]. لأجل هذا؛ فإن على العُلماء أن يجمَعوا الأمة على كلمةٍ سواء، وأن يصدَعوا ببيان الحقِّ ولا يُجامِلوا في دين الله أحدًا؛ فإن أنكَى ما شتَّت الأمةَ وأضعفَها هو تفرُّقُها في الدين، ولَبسُ الحقِّ بالباطِل، واستِخدامُ الدين لتحقيق المطامِع السياسيَّة. وهذا واقعُ اليوم شاهِدٌ على عوار الطائفيَّة والحِزبيَّة؛ فاستُبيحَت الدماء، ودُمِّرَت البُلدان، وشُرِّدَ المُسلمون في بلادِهم. يُذكِي ذلك عُلماء سُوء، وقادةُ سُوء، جرَفُوا بعضَ المُسلمين إلى الإشراك بالله، وصياغة مفاهِيمهم ليعودوا على أمَّتهم أعداء ومُحارِبين، وحمَّلُوا الإسلام ما لم يحتمِلُه من عقائِد وشرائِع، وقصصٍ وأخبارٍ، في استِغلالٍ بشِعٍ لثَاراتٍ تاريخيَّةٍ ليسُوا منها في نسَبٍ ولا سبَبٍ، ولكنَّه الاستغلالُ الرَّخيصُ لجماعاتٍ من المُسلمين مُغيَّبة، وركِبُوا سياسةً باسمِ الدِّين وليس همُّهم الدينَ، واستَمالُوا بعضَ المسلمين في عواطِفِهم وجهلِهم. يا أيها المسلمون: كفَى غيبةً للوعيِ، ونومًا للضمير، وتخويفًا بتُهمة الطائفية، لأجل السُّكوت عمَّن يُمارِسُ الطائفيَّة قولاً وفعلاً واعتِقادًا! لقد آنَ الأوانُ ليعلُوَ الصوتُ بوقفِ التدخُّلات الخارجيَّة التي تُزعزِعُ الأمن، وتُفرِّقُ الصفَّ، وتُشتِّتُ الأمة، لا تُبقِي دينًا ولا تُصلِحُ دُنيا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220]. لا بُدَّ من توحيد الجُهود، وتنقِيَة الصفوف، وحِراسَة الدين، وجمع الكلمةِ على الدِّين الحقِّ. أبرمَ الله لهذه الأمة أمرًا رشدًا. أيها المسلمون: ومن التضامُن الذي لا يُعذَر فيه قادِرٌ: إعانةُ المُحتاج من المسلمين، وإنه لم يعُد خافِيًا ما رُزِئَت به بلادُ الشام من حربٍ وتدميرٍ، فتَكَت بالصغير والكبير، وأهلكَت الحرثَ والنسلَ، وشرَّدَت الملايينَ في البرد والعراء. وقد جدَّد خادمُ الحرمين الشريفين - وفَّقه الله - الدعوةَ إلى مُساعدتِهم والتبرُّع لهم بما يُخفِّفُ مُعاناتهم، كان الله لهم. فجُودُوا جادَ الله عليكم، وأحسِنُوا كما أحسنَ الله إليكم، وأنفِقُوا من مال الله الذي آتاكم. تُقدِّمون لأُخراكم، وتُبارِكون دُنياكم، وتُعينُون إخوانَكم. هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدة والمُفسدين. اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل دائِرَة السَّوء عليه يا رب العالمين. اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم من أراد المسجد الأقصَى بسُوء فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِه، واجعَل دائِرَة السَّوء عليه يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَ المسلمين المُستضعَفين في فلسطين، اللهم أصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم. اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين. اللهم الطُف بإخواننا في سوريا، وبُورما، وأفريقيا الوُسطى، وفي كل مكان، اللهم ارفع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفَرَج، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم. اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعَاتهم، واحفَظ أعراضَهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واربِط على قلوبِهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرَارهم، اللهم اكبِت عدوَّهم. اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن عاونَهم. اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين. اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد. اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين. اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، واكفِهم شِرارَهم، اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147]. اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّيَّاتنا، إنك سميع الدعاء. نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجَلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والباد، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ. ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيمُ. سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. | |
|