عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَانْطَلَقْتُ إلى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ فَقُلْنَا: سَلْ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا لا تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "مَنْ هُمَا؟" قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟" قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابةِ وَأَجرُ الصَّدَقَةِ"(20).
وفي رواية عند مسلم قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ"، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إلى عَبْدِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي، وَإِلا صَرَفْتُهَا إلى غَيْرِكُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ... الحديث.
وفي حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أنه بعد أن وعظ النبي- صلى الله عليه وسلم- وحثَّ على الصدقة انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إلى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ زَيْنَبُ، فَقَالَ: "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟" فَقِيلَ: امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا، فَأُذِنَ لَهَا، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ"(21).
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) التعاون بين الزوجين في الإنفاق على البيت: فمع أن الإنفاق مسئولية الرجل في المقام الأول فإن من المشروع أن يتعاون الزوجان في تحمل أعباء الحياة، وأن يتقاسما هَمَّ الإنفاق على الأسرة، وها نحن نرى زينب امرأة ابن مسعود تنفق على عبد الله وأيتامٍ في حجرها؛ لما تعلم من حال زوجها وخفة ذات يده، ولئن كان إنفاق الرجل على أهله من القربات والطاعات؛ فإن إنفاقَ المرأة وتقديرها لحال زوجها يجعل لها أجر الصدقة وأجر القرابة، ولكَ أن تتصور السعادة النفسية وحالة الطمأنينة التي تملأ البيت عندما يحصل هذا التعاون الكريم من غير منٍّ ولا أذى!.
(2) إقرار الذمة المالية المستقلة للمرأة: لئن كان الإسلام حض على التعاون بين الزوجين فإنه قد قرر حق المرأة في الاستقلال المالي، واعتبر هذا التعاون منها عملاً تطوعيًّا، حتى إنه ليجعل زوجها والأيتام في حجرها ممن يحل لها أن تعطيهم صدقتها، بل هم أحق من تتصدق عليهم، ولها في ذلك أجران.
(3) فضيلة الصدقة على الأقارب المحتاجين: بيَّن النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف أن الصدقةَ على المحتاجين من الأقارب تجمع بين كونها صدقةً، وكونها صلةَ رحمٍ، ويُثاب المتصدق عندئذٍ بالقصدين جميعًا، ولهذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يُوجِّه دائمًا إلى سدِّ حاجةِ الأقربين أولاً.
فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: من الآية 92)، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ"، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ(22).
(4) حرص المسلم والمسلمة على استفتاء أهل العلم، وإن كان عنده بعض علم عما يسأل عنه: فقد رأينا ابن مسعود- رضي الله عنه- يحرِّض امرأته على سؤال النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الصدقة على الزوج والأقربين، مع أنه كان يرى جواز ذلك، كما رأينا حرص زينب رضي الله عنها على السؤال، وطلبت من زوجها أن يسأل النبي- صلى الله عليه وسلم- أولاً، ثم استجابت لرأيه بأن تسأل بنفسها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليطمئن قلبها، فلما أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تسأله صادفت عنده امرأة أخرى جاءت تسأل نفس المسألة، مما يدل على أن الأمة جميعًا كانت حريصةً على السؤال والاستفتاء ومعرفة الحكم الشرعي.
(5) ما كان عليه نساء الصحابة- رضي الله عنهن- من المبادرة إلى تنفيذ وصايا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فها هي زينب امرأة ابن مسعود وامرأة أخرى ما إن سمعتا بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالصدقة حتى أسرعتا تنفذان أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وإنما ذُكر أمرُ هاتين في هذا الحديث دون غيرهما؛ لخصوص المسألة التي سألتا عنها، وإلا فقد ثبت يقينًا أن النساء جميعًا تسارعن في الاستجابة لأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالصدقة، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- قَالَ لَهُ رَجُلٌ: شَهِدْتَ الْخُرُوجَ (يعني لصلاة العيد) مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ- يَعْنِي مِنْ صِغَرِهِ- أَتَى الْعَلَمَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُهْوِي بِيَدِهَا إلى حَلْقِهَا، تُلْقِي فِي ثَوْبِ بِلالٍ، ثُمَّ أَتَى هُوَ وَبِلالٌ الْبَيْتَ.
وفي رواية قال: فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إلى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ يَدْفَعْنَ إلى بِلالٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ هُوَ وبِلالٌ إلى بَيْتِهِ(23). وروي مثل ذلك عن جابر- رضي الله عنه- في الصحيحين.
الموقف الرابع: زوجُه لا تفعل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- قَاَل: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَوَشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْن فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية 7)، قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ. قَاَلْت: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي. فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا. فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعَتْنَا (24).
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) متابعة الرجل لأهل بيته، ولما يجري في البيت: فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- يعرف بيته تمامًا، ويتابع أهله دائمًا، ويطمئن إلى التزامهم بحقائق الدين وآداب الإسلام، وبلغ من تمام متابعته أنه لم يتأثر بقول المرأة: إني أرى أهلك يفعلونه، بل دعاها لأن تذهب فترى بنفسها كيف أن امرأته مستقيمة على أمر الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم-، وذهبت المرأة فلم تجد غير ما ذكره لها، فما كان ابن مسعود ليعلم الناس شيئًا لم يسبق أن يعلمه أهله، وما كان لينصح بما لا يلتزم هو وأهل بيته به.
(2) حرص المسلم على تغيير المنكر في بيته بيده: فإذا كانت أعلى درجات إنكار المنكر هي التغيير باليد فإنه لا ينبغي أن ينزل المسلم عن هذه المرتبة إلى ما دونها إلا إذا عجز عنها، ومن ثم كانت قوامة الرجل على بيته سببًا من أسباب وجوب التغيير للمنكر في البيت باليد، وقد رأينا في هذه القصة كيف أن ابن مسعود- رضي الله عنه- لم يكن ليقبل بحالٍ من الأحوال بأن يسكت على ارتكاب زوجته لشيء مما نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم-. وهكذا يجب أن يكون التعاون بين الزوجين في تطبيق أحكام الإسلام، وبخاصة الأزواج من الدعاة.
وسنرى في الموقف التالي كيف تصرَّف ابن مسعود حين رأى شيئًا غير مشروع تفعله امرأته.
الموقف الخامس: ينكر على زوجته أن تسترقي برقى غير شرعية
عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهَا أَصَابَهَا حُمْرَةٌ فِي وَجْهِهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا عَجُوزٌ، فَرَقَتْهَا فِي خَيْطٍ، فَعَلَّقَتْهُ عَلَيْهَا، فَدَخَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- فَرَآهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: اسْتَرْقَيْتُ مِنَ الْحُمْرَةِ، فَمَدَّ يَدَهُ فَقَطَعَهَا، ثُمّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتَّوْلِيَةَ شِرْكٌ" قَالَ: فَقُلْتُ: مَا التَّوْلِيَةُ؟ قَالَ: التَّوْلِيَةُ: هُوَ الَّذِي يُهَيِّجُ الرِّجَالَ(25).
يستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) الحرص على تعليم الأهل الحق وتحذيرهم من الباطل: فهذا ابن مسعود- رضي الله عنه- لما رأى امرأته تسترقي برقية غير شرعية لم يمكنه السكوت على ذلك، بل رأى من واجبه أن يبيِّن الحق ويحمل أهله عليه، وأن يكشف الباطل ويمنع أهله منه، وقد رويت هذه القصة بتفصيل أكبر يكشف من خلال الحوار الذي جرى بين ابن مسعود وامرأته، كيف يجب أن تكون عقيدة المسلم، ويكون إيمانه.
فعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إلى الْبَابِ، تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ، قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَتَنَحْنَحَ، قَالَتْ: وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنْ الْحُمْرَةِ، فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ، فَدَخَلَ، فَجَلَسَ إلى جَنْبِي، فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا، قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: خَيْطٌ أُرْقِيَ لِي فِيهِ، قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأَغْنِيَاءُ عَنْ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ، شِرْكٌ" قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا، وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إلى فُلانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا، وَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا" (26).
قال الخطابي: "المنهي عنه من الرقى ما كان بغير لسان العرب فلا يُدْرَى ما هو، ولعله قد يدخله سحر أو كفر، فأما إذا كان مفهوم المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم".
(2) تعاون الأسرة على تحقيق صحيح الإسلام: فهكذا كانت زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنها، نعم العون لزوجها على طاعة الله، تستجيب لكل ما عرفت من أمر الله ورسوله بلا تردد ولا حرج، من غير أن يمنعها ذلك من الاستفسار والسؤال لدفع الشبهات وتثبيت الإيمان واليقين، ولا يجد ابن مسعود- رضي الله عنه- حرجًا في أن يجيبها بما يطمئنها، ثم لا يغادر الموقف من غير أن يعلمها المشروع من الرقى، والذكر بدل ذلك العمل غير المشروع، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
الموقف السادس: مع أبنائه يوصيهم
رُزِق ابنُ مسعود- رضي الله عنه- على الكبر ولدين كانا من خيار التابعين وثقاتهم، وهما عبد الرحمن، وأبو عبيدة عامر، وقد أدركا أباهما صغارًا، وقبضه الله إليه وهما بين السادسة والسابعة، وقد حرصا على جمع علمه ورواية حديثه إلا أن غالب روايتهما عنه تُعَدُّ عند المحدثين منقطعة؛ لأنهما لم يسمعا منه إلا قليلاً، وعلى كل حالٍ فإن صغر أسنانهما لم يمنع ابن مسعود- رضي الله عنه- من تأديبهما وتوجيههما.
فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود أن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أوصى ابنه عبد الرحمن فقال: يا بُنَيَّ إِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَابْكِ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتَُك (27).
وعن الشعبي قال: لما حضر عبدَ الله بن مسعود الموتُ دعا ابنَه فقال: يا عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، إني موصيك بخمس خصال فاحفظهن عني: أَظْهِرْ اليأسَ للناس فإن ذلك غِنًى فاضلٌ، وَدَعْ مَطْلَبَ الحاجات إلى الناس فإن ذلك فقرٌ حاضرٌ، وَدَعْ ما تعتذر منه من الأمور ولا تعملْ به، وإذا استطعت أن لا يأتي عليك يومٌ إلا وأنت خيرٌ منك بالأمس فافعلْ، وإذا صلَّيْتَ صلاةً فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ كأنك لا تُصلي صلاةً بعدها (28).
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
اهتمام الأب بتربية أبنائه، وتعويدهم مكارم الأخلاق من نعومة أظفارهم: وهذا مما غفل عنه كثيرٌ من المسلمين، بل من الدعاة؛ إذ ينظرون إلى أبنائهم نظرةَ استصغار؛ حتى يبلغ الولد مبلغ الشباب ويستعصي على قبول النصيحة، وهذا خلاف المنهج النبوي في تعليم الصغار من وقتٍ مبكرٍ في حياتهم، فالتعليم في الصغر كالنقشِ على الحجر، وهو ما فعله ابن مسعود- رضي الله عنه- مع أبنائه الذين لم يتجاوزوا السابعة من أعمارهم، إذْ دعاهم إلى التقوى وحفظ اللسان، والبكاء من الخطيئة، واليأس مما في أيدي الناس، والترقي الدائم في مجالات الخير والإخلاص لله في العمل... إلى آخر وصاياه- رضي الله عنه- التي كان لها أكبر الأثر في حياة ولديه عبد الرحمن وأبي عبيدة، فصارا من خيار التابعين وثقات الأئمة.
وهذا التوجيه الكريم المبكر هو أفضل ما أعطى الوالد ولده، فعن عمرو بن سعيد بن العاص- رضي الله عنه- أَنّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ"(29).
وعن جابر بن سَمُرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم-: "لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ" (30).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم- قال: "أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم" (31).
وبهذا التوجيه الكريم أختم هذه الترجمة المباركة، داعيًا المولى عز وجل أن يتقبلنا في الصالحين بحبنا لرسوله- صلى الله عليه وسلم- ولصحابته الكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.